الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وبعد:
فقد شاء الله بحكمته البالغة ورحمته العظيمة أن يبتلي بعض عباده بالإعاقة كما يبتلي غيرهم بالمرض والفقر والخوف وغير ذلك من البلاء ليرى من يشكر ممن يكفر ويمتحن عباده كلا بما يناسبه.
والإعاقة : هي قصور ونقص في بعض الأعضاء والقدرات والمهارات وهي على أنواع منها ماهي فكرية ومنها ما هي حركية وقد تكون في العقل وفي السمع والبصر واللسان والأطراف وقد تطور الطب الحديث في تصنيف الإعاقة وتحديد درجتها وكيفية علاجها وتخفيف أثرها ووضع البرامج في تأهيل ذوي الإعاقة ببحوث ودراسات والكلام يطول ويسند لأهل الإختصاص. إلا أن الضابط شرعا في الإعاقة كل فقد أو قصور لعضو أو وظيفته مما يتسبب لصاحبه بالإعاقة عن مزاولة حياته الطبيعية بعدم القدرة أو حصول المشقة له.
والشارع الحكيم اعتنى بالمعاق عناية فائقة وراعى ظروفه الخاصة وأسقط عنه بعض الواجبات كما قال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَج وَلَا عَلَى الْأَعْرَج حَرَج وَلَا عَلَى الْمَرِيض حَرَج). ولما ضعف بصر عتبان رخص له النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة في بيته كما في الصحيح.
وقد رتب الشارع الحكيم ثوابا عظيما لمن فقد عينيه كما في صحيح البخاري من حديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله قال إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة). وهذا الحديث أصل فيمن ابتلي بالإعاقة ففقد عضوا مهما فصبر واحتسب فله الجنة وهذا في الإعاقة الطارئة وفي معناه ، ويحتمل أشد من ولد معاقا ناقص الخلقة قد لحقه الضرر طيلة عمره ولم يطرأ عليه ولا أعلم حديثا أعظم ثوابا لذوي الإعاقة من هذا الحديث.
ولا ينبغي لنا أن نتحرج من إطلاق مصطلح الإعاقة ونستبدله بذوي الاحتياجات الخاصة لأن وصف الإعاقة وصف دقيق مطابق للواقع غير متكلف فيه ولا إهانة فيه بينما المصطلح الآخر فضفاف المعنى ويرد عليه ما يرد على الأول فأرى أنه لا حرج من إطلاق مصطلح الإعاقة وهو سهل الاستعمال.
والمعاق مكلف يجري عليه الثواب والعقاب في سائر العبادات كالسليم المعافى إلا إذا فقد عقله بالكلية ولا يحل له ترك الفرائض لعذر الإعاقة مع قدرته عليها وإن تركها لغير عذر يعتبر مفرطا يؤاخذ شرعا ويستحق الوعيد في الآخرة.
والمعاق في أحكامه ورخصه في باب الطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج وسائر الأبواب كالمريض إلا أنه أشد غالبا لأن المرض عذر طارئ والإعاقة عذر دائم وقد يكون المرض أشد في بعض الصور ويلزم المعاق الإتيان بالفرائض على حسب استطاعته فإن قدر على جميع العبادة بشروطها وواجباتها وجب عليه الإتيان بها تامة وإن قدر على بعضها سقط عنه القدر الذي عجز عنه ولزمه ما قدر عليه وإن عجز عن بعض الشروط سقطت عنه بالكلية ولم يطالب بها كالعجز عن االطهارة بالماء وإزالة النجاسة واستقبال القبلة وستر العورة وصلى حينئذ على حسب حاله ولا تسقط عنه الصلاة مهما عجز عن بعض شروطها وأركانها إلا إذا زال عقله بالكلية وفقد التكليف وإذا عجز عن شيء في حال ثم قدر عليه في حال أخرى وجب عليه الإتيان بما عجز عنه في حال القدرة ويرخص له الجمع بين الصلاتين إذا شق عليه الصلاة في الوقت كالمريض ولا حرج عليه في الصلاة وحدثه يخرج باستمرار كالمستحاضة ويسقط عنه السعي إلى العبادات عند وجود المشقة الظاهرة والأصل في هذا الباب قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا). وما جاء في صحيح البخاري عن عمران بن حصين قال: كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: (صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب).
أمور تساعد المعاق على النجاح وعدم اليأس
وثمة أمور تخفف مصاب المعاق وتسهل عليه حاله وتجعله يعيش في سعادة:
#الأول : أن يوقن أن ما فيه من إعاقة هو ابتلاء من الله لحكمة بليغة قد تظهر له وقد تخفى عليه ولا يوجد تصرف أفضل في مثل هذه الحال إلا الصبر والاحتساب والرضا بقضاء الله وقدره. قال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).
#الثاني : أن يوقن المعاق أن ما هو فيه هو من حال رزق كتبه الله عليه وقسمه له كما يقسم الأرزاق بين الناس فليقنع بذلك ويرضى بقسمة الله ليفلح ويشعر بالسعادة القلبية والاطمئنان الروحي وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه). رواه مسلم.
#الثالث : أن يستشعر المعاق الأجر والثواب المترتب على صبره على الإعاقة وهو الجنة كما ثبت في السنة ويتذكر حال المرأة السوداء التي كانت تصرع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فخيرها النبي بين الشفاء والصبر على البلاء فاختارت البلاء فبشرها بالجنة كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس فإذا صبر فهو من أهل الجنة وكفى بذلك شرفا ونعيما.
#الرابع : أن يوقن أن هذا البلاء قدر ملازم له لا مفر له فيتعايش مع ظروفه ويتكيف على حسب قدراته ويزاول حياته الطبيعية بكل ما يملك ويشارك الآخرين في بناء المجتمع ويكون قويا بالله ولا يتقوقع على نفسه وفي الحديث: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان). رواه مسلم.
#الخامس: أن يدرك من أصابته إعاقة أن حزنه وحسرته وكثرة همه على حاله لا ترجعه إلى حالته السليمة إلا أن يشاء الله فلا يضيع عمره ووقته بالملامة والحزن والبكاء لأنها أمور لا تنفعه وتدل على الخور بل تضره وتؤثر على نفسيته وتوقعه في الاكتئاب وتضيع عليه الفرص.
#السادس : أن يفكر في الإعاقة تفكيرا إيجابيا ويستثمر شعوره بذلك في إثبات ذاته وتطوير قدراته ومنافسته للآخرين ولا يستسلم أمام نظرة المجتمع بل يصابر ويجاهد ويسعى في كسب رزقه وهذا ينعكس على نفسيته بالراحة ويشعره بالثقة والمكانة والمنزلة الرفيعة.
#السابع : أن يتأمل في أن الله هو المتصرف بعباده وأننا عبيده يتصرف بنا كيف شاء وأنه يعطي من يشاء ويمنع من يشاء وأنه إن كان قد منعه عضوا أو قدرة أو شيئا من وظائف الجسم فقد أعطاه نعما أخرى لا يستطيع إحصاؤها فليحمد الله على ذلك ولا يحزن ولذلك عروة بن الزبير لما أصيب رجله بالآكلة وقطعها الطبيب صبر واحتسب وقال: (أعطاني أربعة أطراف وأخذ واحدا إن ابتلى فطالما عافى وإن أخذ فطالما أعطى).
#الثامن : أن ينظر ويتفكر في حال من هو أشد إعاقة وبلاء منه لتهون مصيبته ويشكر الله على عطائه ، فإن البلاء درجات ولا ينبغي له أن تتطلع نفسه وينظر إلى من هو أصح منه بدنا وأحسن حالا منه حتى لا يزهد في نعمة الله ولا يعرف قيمتها ثم يغتم ويحزن ولذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم لذلك بقوله: ( انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله). رواه مسلم.
#التاسع : التفكر أنه ما به من بؤس في الدنيا سينقلب إلى نعيم عظيم في الآخرة ينسيه ما كان فيه من بؤس فما هي إلا أيام قليلة في الدنيا فليصبر عليه وقد ثبت في صحيح مسلم: (يؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط).
#العاشر: من أعظم ما يسلي المعاق الإقبال على الله بتلاوة القرآن والذكر والصلاة والصدقة والحرص على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وحضور مجالس العلم فإن القلب إذا سكن جنة الأنس بالله وذاق لذة مناجاته وغمرته السعادة نسي آلامه وهمومه وبؤسه وحاجته في الدنيا.
#الحادي_عشر : ومما يهون المصاب ويسلي الخاطر كثرة التفكر في أحوال الآخرة وزوال الدينا وأنه لن يخلد في الدنيا وأن الموت قريب لكل حي وأن إعاقته ونقص بدنه ستزول في الجنة لأن أهل الجنة خلقهم تام وحسن المنظر لا نقص فيه ولا إعاقة وأنهم يكونون على صورة آدم في الحسن والجمال والطول كما ثبت في السنة.
#الثاني_عشر : الاشتغال بالبرامج المفيدة والأعمال التطوعية والمشاركة في إدخال السرور والسعادة على الآخرين ولو بالشيئ اليسير فإن إيصال السعادة للغير ينعكس على المعاق بالسعادة ويشعره أنه قادر على العطاء.
نتحدث أيضاً عن دور الأسرة في تشجيع قدرات ذوي الإحتياجات الخاصة ، وعن دور المجتمع كذلك ، وعن حساسية المعاق المفرطة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق